جويرية بنت الحارث
رضي الله عنها
أخرج ابن إسحاق عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمّا قسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث رضي الله عنها في السهم لثابت بن قيس بن شمّاس أو لابن عمّ له، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلو مُلاحة (شديدة الحسن) لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، في نحو العشرين من عمرها. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتستعينه في كِتابتها، قالت عائشة: (فوالله ما هو إلا أن رأيتُها على باب حجرتي فكرهتها، وعَرفتُ أنه سيرى منها ما رأيتُ) فدخلت عليه فقالت: (يا رسول الله أنا بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخفَ عليك، فوقعتُ بالسهم لثابت بن قيس ابن شمّاس، فكاتبتُه على نفسي فجئتُك استعينُكَ على أمري)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فهل لك في خير من ذلك)؟ قالت: (وما هو يا رسول الله)؟ قال: (أقضي عنك كتابتك وأتزوجك)، قالت: (نعم، يا رسول الله قد فعلت). قالت: (وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية بنت الحارث)، فقال الناس: (أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا ما بأيديهم)، قالت: (فلقد أُعتِقَ بزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مائة بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها) [1].
· وقعت غزوة بني المصطلق في السنة السادسة للهجرة. فقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق بزعامة الحارث بن أبي ضرار يعدّون العدة لحرب المسلمين، فندب رسول الله أصحابه للجهاد، وخرج بهم مسرعا وكانوا سبعمائة مقاتل. وبلغ رسول لله صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى ماء لهم يقال له (المُريسيع).
التقى الجمعان فعرض عليهم النبي الإسلام ليمنعوا أنفسهم وأموالهم فأبوا، فأخذهم أصحاب النبي ولم يغادروا منهم أحدا. أسـروا الرجـال وغنموا الأموال وسبوا النساء واستاقوا نعمهم وشاءهم.
· أما جويرية فهي بنت سيد القوم الحارث بن أبي ضرار، نشأت في ظل سيادة أبيها في عز وسؤدد.
تزوجت من مسافع بن صفوان أحد فتيان خزاعة، وقد قتل عنها مشركا فيمن قتل في الحرب التي خطط لها أبوها وقومها.
ووجدت جويرية نفسها في موقف صعب. انتقلت فيه فجأة من أعز فتاة في قومها فهي بنت سيد القوم وزوجة فارسهم.. تدّل على الجميع بحسبها ونسبها وجمالها ومالها.. وإذا بها اليوم أسيرة ذليلة تساق مع السبايا لتقع في سهم رجل من أطراف الناس يدعى ثابت بن قيس بن شمّاس.
وفي ظلال هذه المحنة.. جاءتها الفكرة.. فلم لا تكاتب على نفسها.. وتلجأ إلى النبي تحادثه في أمرها..؟
ولقد ترجح عندها أن تجد لدى النبي حلا ومخرجا. ولربما أدركت بعقلها الراجح وتفكيرها الحصيف أن النبي وحده من يستطيع أن يفهم مأساتها فينقذ سيدة قوم ذلت وهانت وأسرت!
وبلغة عاطفية مؤثرة.. أضفى عليها الجمال الحزين مزيدا من التأثير.. قالت: (أنا بنت سيد القوم، أصابني من البلاء ما لا يخفى عليك، فجئتك أستعينك". كلام مختصر وبليغ ومؤثر).
ولقد أصابت جويرية.. فوجدت عند النبي ما كانت ترجو. يسألها النبي: (فهل لك خير من ذلك).. وتسأل: (وما هو يا رسول الله)..؟ فيجيب: (أقضي عنك كتابتك وأتزوجك.. وتقول: (نعم يارسول الله).. ويقول النبي: (قد فعلت) [2]..
ولا أعرف.. هل أوصلها فكرها، يوم كاتبت عن نفسها وجاءت تخاطب النبي، إلى مثل هذه النتيجة: بأن تصبح زوجة كريمة في بيت النبي..؟
هل تصورت أن تخلص من ذل الأسر لتصبح سيدة ليـس لبني المصطلـق فحسـب، بـل ولجميع نساء العالمين.. وأمّا لجميع المؤمنين..؟
ويتسامع المسلمون بالخبر.. فيطلقون كل من كان من الأسرى من قومها.. ويسمع والدها الحارث بالخبر.. فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وتدخل العروس بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، (وما من امرأة أعظم على قومها بركة منها: أعتق بزواجها، أهل مائة بيت من بيوت بني المصطلق) [3].
مفارقات
كرهت عائشة رضي الله عنها جويرية منذ رأتها.. فقد عرفت بحسها الأنثوي أن رسول الله سيرى منها ما رأت.. وتحقق ظنها.. ودخلت الأسيرة الحسناء بيت النبي أما للمؤمنين.. أما عائشة فقد كانت في هم مقيم.. فما لبثت أن شغلت عن جويرية وغيرها.. بما أعقب تخلفها عن الركب العائد من بني المصطلق، من قيل وقال في قصة الإفك.
توفيت جويرية رضي الله عنها سنة خمسين وهي بنت خمس وستين سنة.. ودفنت في البقيع إلى جانب أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين..
[1] حياة الصحابة 1: 664 منقولا عن البداية 5: 159.
[2] هذا الحوار في السيرة 3: 307.
[3] هذا القول للسيدة عائشة أم المؤمنين.