صفية أم المؤمنين
رضي الله عنها
انتهت السنة السادسة للهجرة، وقد تم فيها صلح الحديبية.
وبزغ هلال المحرم من سنة سبع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتهيأ لمعركة خيبر. فقد كشفت له معركة الخندق عما ينطوي عليه اليهود من حقد، وما يبيتون للإسلام من شر، وفتحت حصون خيبر حصنا حصنا، وقتل رجال وسبيت نساء.. وكانت صفية عقيلة بني النضير من بينهن.. فأنقذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها، وتزوجها.
وصفية هي بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير، ينتهي نسبها فيما يقال إلى هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام، وأمها برّة بنت سموءل.
تزوجت من سلام بن مشكم فارس قومها وشاعرهم.. ثم خلف عليها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق صاحب حصن (القموص) أعز حصن في خيبر.
اقتحم المسلمون الحصن بعد قتال مرير، وجيء بكنانة حيّا، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله الرسول عنه، فنفى أن يكون يعرف مكانه، فقال له رسول الله: (أرأيت إن وجدناه عندك. أأقتلك؟ قال كنانة: (نعم).
فلما اكتُشِفَ مخبأ الكنز عنده، دفعه المصطفى إلى (محمد بن سلمة) فضرب عنقه بأخيه (محمود بن سلمة) الذي قتله اليهود في المعركة [1].
وسيقت نساء القموص سبايا، وفي مقدمتهن زوجة كنانة.
يحدث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ صفية بنت حيي، قال لها: (هل لك فيّ)..؟
قالت: (يا رسول الله.. قد كنـت أتـمنّى ذلك في الشرك.. فكيف إذا أمكنني الله منه في الإسلام)..؟ فاعتقها عليه الصلاة والسلام وتزوجها [2].
وصفية يوم تزوجهـا رسـول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن قـد جاوزت السابعة عشرة من عمرها.. ومع ذلك فهي امرأة عاقلة، تتصرف بحكمة لا ينتظرها الإنسان ممن هنّ في مثل سنّها.
· فعندما تزوج رسول الله صفية وأراد أن يعرس بها، تمنعت وأبت عليه أن يفعل. فوجدها صلى الله عليه وسلم في نفسه، وشقّ عليه تـمنعها ورفضها. فلما كان بالصهباء في الطريق إلى المدينة نزل يستريح، فبدا له أن صفية متهيئة للعرس: جاءتها ماشطة فمشطتها وجملتها وعطرتها. وظهرت صفية عروسا تأخذ العين بسحرها.. وأقبلت على رسول الله.. فسألها: "ما حملك على إبائك في المنزل الأول..؟ فأجابت: (خشيت عليك قرب اليهود) [3].
فهي تعرف قومها ومكرهم.. فخشيت على رسول الله من مكرهم.. وهذا التصرف الذي أبدته صفية، انتبه له عقلاء الصحابة.. فقد روى ابن هشام في السيرة: أن أبا أيوب الأنصـاري بـات يقظان ساهرا متوشحا بسيفه، يطيف بالقبة التي دخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم على صفية، فلما أصبح رسول الله سمع حركته ورأى مكانه فسأله: مالك يا أبا أيوب؟
أجاب: (يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة، قد قتلت أباها وزوجها وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر، فخفتها عليك).
فدعا له الرسول وقال: (اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني) [4].
· وينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه صفية فيرى بعينها خضرة (سوادا) فقال لها: (ما هذه الخضرة بعينيك)..؟ قالت: (قلت لزوجي كنانة بن الربيع -في ليلة عرسي- إني رأيت فيما يرى النائم كأن قمرا وقع في حجري، فلطمني). وقال: (أتريدين ملك يثرب) [5]؟
إن موقع صفية في بيت أبيها حيي زعيم بني النضير، مكّنها من الإطلاع على خبايا الفكر اليهودي المتعصب الحاقد.. كانت تسمعهم يحذرون العرب وهم أهل شرك وأوثان، من أن نبيا سيبعث، قد أظل زمانه، نتبعه، فنقتلكم معه، قتل عاد وارم، وكانوا يصفونه لهم بصفاته.
فلما بُعث النبي الخاتم وهاجر إلى المدينة سمعت صفية بأذنيها ما دار بين أبيها وعمها.. ولنستمع إليها تحدثنا. قالت:
(كنت أحبَّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني دونه. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، غدا عليه أبي وعمي مغلّسين، فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس، فأتيا كالّين ساقطين يمشيان الهوينا. فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ أحد منهما مع ما بهما من الغم. وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي:
أهو هو؟ قال: نعم والله.
قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ أجاب: عداوته والله ما بقيت [6].
فهل يستغرب أحد بعد ذلك أن تحلق صفية في أجواء الدين الجديد.. وأن ترى قمرا يقع في حجرها.. فتؤمن بالنبي ويحسن إسلامها.. يقول رسول الله لعائشة: كيف رأيتها..؟ فتجيب: رأيت يهودية. ويرد عليها رسول الله: لا تقولي ذلك، فإنها أسلمت وحسن إسلامها [7].
أبي هارون وعمّي موسى
حاولت صفية أم المؤمنين رضي الله عنها، بلباقة طبعها، وحذرها المعهود فيها، أن تأخذ طريقا وسطا بين الضرائر في بيت النبي.. تقربت من حزب عائشة- حفصة من جانب، ومن الحزب الآخر الذي تقوده أم سلمة وزينب والزهراء من جانب آخر.. ومع ذلك فما أكثر ما سمعت التعريض جهرا أو تلميحا بالدم اليهودي الذي يجري في عروقها..
كانت تتمتع باستمرار بحماية النبي وعطفه.. فعندما رآها تبكي لكلام سمعته من أمهات المؤمنين.. قال لها النبي: ألا قلت: وكيف تكونان خيرا منّي، وزوجي محمد، وأبي هارون، وعمي موسى..؟
روي أن أمهات المؤمنين اجتمعن حول فراش الرسول صلى الله عليه وسلم في مرضه الأخير، فقالت صفية: (إني والله، لوددت أن الذي بك بي.. فما كان من أزواجه إلا أن غمزن ببصرهن فما راعهن إلا أن قال رسول الله: مَضْمِضْنَ! تساءلن في دهشة: من أي شيء؟ قال: من تغامزكن بها.. والله إنها لصادقة[8].
المعركة السياسية
شاركت أم المؤمنين صفية رضي الله عنها في المعركة السياسية التي جرت أيام عثمان.. فكانت شديدة الولاء لأمير المؤمنين عثمان.. ولقد وضعت معبرا بين منزلها ومنزل عثمان، فكانت تنقل إليه الطعام والماء.. وهو في محنة الحصار[9].
ماتت صفية في خلافة معاوية.. ودفنت بالبقيع مع أمهات المؤمنين.. رضي الله عنها وأرضاها.
[1] سيرة ابن هشام 3: 351.
[2] نساء النبي- بنت الشاطئ، ص-193، نقلا عن طبقات ابن سعد 2 : 85.
[3] السيرة - ابن هشام 3: 350.
[4] السيرة - ابن هشام 3: 355.
[5] السيرة- ابن هشام 2: 165.
[6] السيرة - ابن هشام 2: 165.
[7] رواه ابن ماجة.
[8] الإصابة في معرفة الصحابة - ابن حجر العسقلاني.
[9] الاصابة في معرفة الصحابة - ابن حجر العسقلاني.